رحيل الملكة إليزابيث الثانية عن المملكة المتحدة وعن العالم، هو عبارة عن غياب لحقبة تاريخية عريقة؛ 1926-2022، تاريخ حافل بما قدمته الملكة إليزابيث الثانية لشعبها وأمتها وللعالم من قيادة حكيمة، غيرت مصير بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية لتسير بالجميع وبقوة وعزم وثقة للنصر وإعادة البناء بعد الدمار.
طوال سنواتها في سدة الحكم، ظلت الملكة إليزابيث الثانية، ترقب النمو والتطور والتغيير والتحول إلى المستقبل وتقبل العديد من التحديات الماثلة ليس لبريطانيا وحسب ولكن للعالم أجمع.
ما كان يميز الملكة إليزابيث هو الحزم وعدم التهاون في التقاليد والبروتوكولات الملكية والالتزام التام بما تصدره من تعليمات دقيقة وبما تطبقه طوال يومها في القصر الملكي وأفراد الأسرة الملكية على وجه الخصوص.
قابلت الملكة إليزابيث الثانية مرة واحدة في رحاب جامعة ايسكس البريطانية عام 2004، وتحدثت إلي بابتسامتها الرائعة وبادرتني بالسؤال: من أي بلد أنت؟، أجبت بفخر من الأردن، سرها سماع ذلك، وعبرت الممر الطويل في رحاب الجامعة وأصرت على الذهاب لمطعم الجامعة والاطلاع على الخدمات المقدمة للطلبة القادمين من أنحاء العالم إلى الجامعة والتي كانت فكرة تأسيسها تعود للأمير تشارلز، وأصرت أيضا على التجوال في رحاب الجامعة والتي أهدت لها مجموعة من البط الملكي لينعم بها الطلبة ومشاهدتها في البحيرة داخل الحرم الجامعي.
فيما بعد بسنة استضفت في برنامجي الإذاعي في جامعة ايسكس أحد المرافقين للملكة إليزابيث الثانية وفي الحرس الملكي والذي يطلق على الملكة لقب الأم لما تتمتع به من صفات القيادة الثاقبة، حدثني عن لحظات دقيقة مع الملكة وحرصها على استكمال بنود برنامجها اليومي قبل أن تخلد إلى استراحة قصيرة لتنظيم وقتها ليوم جديد، وذكر أيضا دقتها في تنفيذ برنامجها الخاص دون هوادة.
الحقبة التاريخية العريقة التي تحملت مسؤولياتها حتى آخر لحظة، جعلت من الملكة إليزابيث رمزا لكل جهد يحتذى حول العالم، لخدمة الأمة والشعب والتفاني في ذلك وترك مساحة شخصية مقدسة بعيدا عن الأضواء.
عالم السياسة مزدحم ومثقل بالأسرار والملفات والاتهامات، ولكن يبقى للمدرسة البريطانية في إدارة الأمور ومن خلال الملكة إليزابيث الثانية، نمطا خاصا امتد لسبعين عاما قضتها الملكة متابعة لكل صغيرة وكبيرة في القصر الملكي وخارجه.
عملت الملكة إليزابيث الثانية بإخلاص من أجل بريطانيا وحافظت على ضبط الأمور كما هي ساعة «بيج بن»، بل ضبطت الأحداث من حولها وبما يحقق لبريطانيا النجاح والتقدم والتطور.
بقيت العلاقات البريطانية مع سائر دول العالم مستقرة وقائمة على التعاون والتنسيق والاحترام المتبادل، ولعل من الإنصاف الإشارة إلى المساهمة البريطانية الفاعلة في مسيرة التنمية حول العالم بتوازن وحكمة وروية.
حقبة تاريخية عريقة وحياة حافلة بالإنجازات، خلفتها الملكة إليزابيث الثانية بعد رحيلها عن الدنيا، وبعد سنوات من الشموخ والتصدي لرياح الزمن والعمر والكثير من الإرهاق المرتبط بالسياسة والمحافظة على أمن واستقرار البلاد برؤية ملكية ثاقبة.
تغيب الملكة إليزابيث عن دائرة الأحداث، ولكن يبقى ما حققته شاهدا على عظمة سيدة قادت البلاد بقوة وابتسامة ومحبة، جعلت الشعب البريطاني والعالم يبادلها التقدير والاحترام.